من الأصول المقررة عند أهل السنة والجماعة حب الصحابة رضوان الله عليهم وتفضيلهم على من سواهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني" [متفق عليه]، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه"[متفق عليه]، ولهذا قال الإمام ابن أبي زيد في مقدمة الرسالة عند ذكر باب في ما تنطق به الألسنة، وتعتقده الأفئدة من واجب أمور الديانات: "وأن خير القرون: القرن الذين رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به"، وقال الإمام ابن تيمية في العقيدة الواسطية: "ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما مَنَّ الله به عليهم من الفضائل علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم وأكرمها على الله"، وقوم بهذه المثابة عند أهل السنة قاطبة، ومكانتهم تلك المكانة، من البدهي أن تكون حرمتهم عظيمة، وأن يكون التعرض لهم بما يغض من منزلتهم التي رفعهم الله إليها جناية كبيرة.
وهذا ينبغي أن يكون محل اتفاق بين منتسبي السنة والجماعة ومن نازع فيه يكاد ينزع ربقة السنة.
غير أن بعض من يوافق على هذا التقرير، ويعلن القول به، قد يغفل عن بعض مقتضياته، عندما يقول بجواز تمثيل الصحابة والصحابيات، وإذا أردت أن تتصور عظم إساءتهم للصحابة فتأمل لو أراد بعضهم أن يظهر التاريخ المشرق لحرم أحد رؤساء الدول مثلاً! فجاء بفاجرة أو فاسقة حسناء لتمثل ذلك الدور فعرضت شيئاً من جاهلية حرم الرئيس ثم حالها بعد استقامتها، فهل تراه قد أحسن؟ بل هل ترضى أنت أن تمثل دور حرمك أو ابنتك فاسقة أو كافرة سيئة الصيت؟ مهما يكن فإن للشخصية المُتَقمِّصَةِ الشخصيةَ الحقيقيةِ دلالاتها وانعكاساتها في النفوس.
وأرجو أن لا يَفهم من هذا بعضُ من لم يستنر عقله بأنوار الوحي أن الشخصية إذا كانت فنِّيةً محترمة –زعموا- فالأمر سهل! لا والله! فوفقاً لاعتقادنا في الصحابة فإن كل من سواهم دون لايساوي فيهم شعرة، فإن حاكاهم وتقمص شخصيتهم بطّال فقد أزرى بهم، كما يزري سفيه بالأسد إن رأى الهر منتفخاً فقال: هذا يشبهه! بل أشد، فالفرق بين الصحابة رضوان الله عليهم وبين أفاضل الأمة فرق شاسع، فأفاضل من جاء بعدهم لايبلغ ما أنفقه من أمثال الجبال –لو هو أنفقها- مُدُّ واحد من أولئك ولا نصيفه! ولهذا قال بشر الحافي –الزاهد الثقة المشهور- سئل المعافى بن عمران –العابد الثقة- وأنا أسمع: معاوية أفضل أم عمر بن عبدالعزيز؟ فقال المعافى: معاوية أفضل من ستمائة مثل عمر بن عبد العزيز [رواه الخلال في السنة بسند صحيح]، وسئل ابن المبارك أيهما أفضل معاوية رضي الله عنه أم عمر بن عبد العزيز؟ فقال: الغبار الذي دخل أنف فرس معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، خير من عمر بن عبد العزيز كذا وكذا مرة! [أورده الهيتمي في الصواعق المحرقة]، فهذا الفرق هو بين من ترى من أجلَّة الأمة وبين بعض الصحابة! فكيف ترى الفرق بين عاهرة أو فاسقة وبين سيدة من سيدات نساء المؤمنين؛ وخذ على سبيل المثال الصحابيةَ الجليلةَ أسماءَ بنتَ أبي بكر رضي الله عنهما التي نقل لي تمثيل كافرة عربية عرفت بالمجون لدور أسماء رضي الله عنها في مسلسلة دينية يزعم أصحابها أنها هادفة؟! أو بين أسد الله حمزة بن أبي طالب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد رجالات الوسط الفني النَّتِن! وإن كان أنظف من نقنق في ذلك المستنقع! مع أن هذا الفارق لن يُردم ولو جئنا بأتقى شيوخنا المعاصرين.
إذا فُهِمَ هذا، فهل أساء من مثل أدوار الصحابة؟
إمَّا أن ننصف ونقول: نعم أساء!
وإما أن يكابر من يكابر وتأخذه العزة بالإثم، وعندها فلمُلْزِمٍ أن يحتج بمنطق أولئك فيدعو لإظهار شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في فلم سنمائي زاعماً نفس حجة المجوزين التي حاصلها أن تمثيل السيف بالعصا لا ينقص من قدر السيف! في مخالفة لسائر العقلاء!
ومن جهة أخرى فإن صناعة السينما أضحت اليوم تجارة أو حرفة الغاية الكبرى لصنَّاعها من ورائها الكسب، ولهذا تجد في مسلسلاتهم الدينية ما يداعب الغرائز ويجذب المشاهد، كما أن الغاية الكبرى للمشاهدين المتعة والتسلية، فمشاهدها في الغالب لا يريد من المشاهَدَة ما فيها مما يصلح للعظة والتأمل، وإنما يقصد من ذلك إشباع غرائزه بما يشرح النفس وينسي الهموم، وينقل المرء من حال الجد إلى حال العبث والهزل، ومن أراد حقاً معرفة سير الصحابة والاتساء بهم والاعتبار بمواقفهم، فسيطلب ذلك في مواضعه ومن مظانه، لا من سناريو أعده جرجس أو جرجي أو مقتفٍ لآثارهما!
ومحظور آخر في الأعمال الفنية التي تمثل شخصيات محترمة قد أوجب الله اتباع هداهم وسلوك سبيلهم ألا وهو التزوير لتاريخهم بنقل الغث والسمين، فأصحاب الدراما يحرصون على أخذ كل ما يساعدهم في حبكتهم من أخبار وربما زادوا عليها لباساً يتوهمونه وصورة يتخيلونها وأحداثاً استنتجوها، وواقع الصحابة بخلافها، يعلم ذلك أهل العلم الذين يميزون بين صحيح المنقول وضعيفه، وثابته وضده.
ولأجل ما سبق وغيره صدر من رابطة العالم الإسلامي بخصوص تمثيل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فيلم استعرض حكم تمثيل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما نصه:
"وكما يحرم ذلك كله في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، يحرم تمثيل الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم أجمعين باتفاق أهل العلم،...، ولذلك أجمع أهل العلم على حرمة تصويرهم في الأفلام أو على المسارح لما فيه من المنافاة الصارخة لكل ذلك"، ومن هنا تعلم أن من خالف أو حاول أن يظهر المسألة على أنها قضية خلافية لقول فلان أو علان من المعاصرين الذين نبتوا في عجز الزمان ودبر الأيام، لم يوفق للصواب لأن هؤلاء المتأخرين خالفوا الإجماع وإن عرفنا لبعضهم فضله فهم غير خارقين له بل محجوجون به.
وكما صدر قرار الرابطة صدر أيضاً قرار من المنظمات الإسلامية العالمية المنعقدة في دورتها في مكة المكرمة في ذي الحجة سنة 1390 هـ ، جاء فيه ما نصه: "قرر المؤتمر استنكاره الشديد لمحاولة إخراج فيلم سينمائي يمثل فيه النبي صلى الله عليه وسلم بأية صورة من الصور أو كيفية من الكيفيات كما يستنكر تمثيل الصحابة رضوان الله عليهم، ويناشد المؤتمر كل الحكومات الإسلامية أن تقضي على هذه المحاولة في مهدها".
وهو كذلك قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بالإجماع.
وفتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بها.
وأما أعداد العلماء الذين أفتوا بهذا فلا تنحصر وإنما شذ فخالف بعض أهل العلم المتأخرين وفق صورة توهموها لا يمكن تحقيقها.
ثم إن من أجاز من العلماء المتأخرين المعتبرين تمثيل الصحابة فإنما بنى فتواه على ما جاء في السؤال من أن القصد إظهار مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب مع التحري للحقيقة وضبط السيرة، وعدم الإخلال بشيء من ذلك بوجه من الوجوه رغبة في العبرة والاتعاظ، ومن عرف حال الممثلين، وما لهم من أغراض، وحال المعدين للسيناريوهات ومقدار حصيلتهم من العلوم الشرعية، وحال الوافدين إلى المسارح وما يرغبون فيه، وما يهدفون إليه عرف أن هذا النوع من التصوير للتمثيل مجرد فرض وتقدير يأباه واقع الممثلين وروادهم، وما هو شأنهم في حياتهم وأعمالهم، ولو لم يكن فرضاً لم تكن للمعاصرين قدرة على تمثيل دور الأنبياء ولا خير القرون.
ولو كان هؤلاء صادقين في دعوتهم إلى مكارم الأخلاق والإشادة بصدر هذه الأمة فإن في الأدب والتاريخ وتصوير الفضائل ومكارم الأخلاق لميدانا فسيحا للفن والتمثيل، فليتجه إليها الفن ما شاء له الاتجاه، وليبتكر ما شاء له الابتكار، وليدع أنبياء الله ورسله محفوفين-كما حفهم الله تعالى- بالجلال والوقار، وليذر مكانة الصحابة الأخيار، وليعمل على أن يكون مفتاحا للخير مغلاقا للشر، فطوبى لمن كان كذلك، والويل ثم الويل لمن يثير غضب الله وسخطه وانتقامه وغيرته لأنبيائه وأوليائه، وعِبَرُ أولئك من أرادها يجدها في كتاب الله، وما صح من الأخبار، والكتب المصنفة والبرامج الممنتجة التي تعنى بها كثيرة وفيها كفاية لطالب الهداية، وبالله التوفيق.