الأُخُوَّةُ الصادقة كلمةٌ أريْجُها يعطّر الأرجاء، وعبارةٌ تفيض بالحُبِّ والإخلاص والوفاء.
أُخوةٌ من غير نَسَبٍ، وصادقةٌ لا تعرف الخداع والزيف والكذب.
حُبٌّ في الله، وإخاءٌ لا لمصلحةٍ من مالٍ أو منصبٍ أو جاهٍ...
لكنْ، يبقى السؤال؟!: هل افتقدنا هذه الكلمة في أيامنا؟
أم نحن كالذين سبقونا بحثوا عنها فلمْ يجِدوها، وجعلوا الخِلَّ الوفيَّ ثالثَ المستحيلات عندما قال أحدُهم:
لما رأيتُ بَني الزّمانِ وما بِهِمْ خِلٌّ وفيٌّ للشَّدائدِ أصطفِيْفَعَلِمْتُ أنَّ المستحيلَ ثلاثةٌ: الغولُ والعنقاءُ والخلُّ الوَفِيْ
طبعاً لا أوافق هذا الشاعر على أنّ الخل الوفي من المستحيلات، ولكنْ يمكن أن أقول: إنه من النادرات، فقلَّما يَظْفِرُ به الإنسان، لذلك عندما يجده - ويكون حرًّا وفيًّا - عليه أن يتمسك بأذياله كما قال الشاعر:
تمسّكْ إن ظفِرتَ بذيلِ حرِّ فإنَّ الحرَّ في الدنيا قليلُ
وقد تلتقي بإنسانٍ لأول مرةٍ، فيغمرك إحساسٌ أنك تعرفه منذ زمن، ويدخل قلبَك من غير استئذانٍ، والعكس صحيحٌ، وما ذلك بعجيبٍ، فإنّ روحك قد ألفَتْ روحَه، أمّا الثاني الذي لم تستسغه، فربما يكون في روحَيكُما تنافرٌ لا إراديٌّ، إما أن يقوى مع مرور الزمن، وبعد التجربة والمعرفة، وإمَّا أن تحصل الألفة فيما بعد، وعلى كلِّ حالٍ، حديثُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم واضحٌ في ذلك وصريحٌ، حيث يقول: ((الأرواحُ جنودٌ مجندةٌ، فما تعارفَ مِنْها ائتلَفَ، وما تَناكرَ مِنْها اختلَفَ)).إنّ الأخ الصادق، والصديق الصدوق، يظفر به الإنسان عندما تبنى هذه الأخوةُ والصداقة على محبة الله، لذلك جعل الله تعالى من السبعة الذين يُظلُّهم في ظِلِّهِ يومَ لا ظلَّ إلاّ ظِلُّهُ كما في الحديث الصحيح: ((... رَجُلينِ تَحَابَّا فِى اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ)).
فالمحبة في الله هي التي تبقى وسِواها يتلاشى ويضمحلُّ، والذي يحبُّ إنساناً ما لِمالِهِ فإنه لا يحبه لشخصه، بل يحب المال الذي في جيبه، لذلك عندما يصبح فقيراً ينفضُّ عنه الناس، ورحم اللهُ من قال:
رأيتُ الناسَ قد مالُوا إلى مَن عندَهُ مالُومَن ما عندهُ مالُ فعنهُ الناسُ قد مالُوارأيتُ الناسَ قد ذهبوا إلى مَن عندَهُ ذَهَبُومن ما عندَهُ ذهبُ فعنه الناسُ قد ذهَبُوا
وكذلك الذي يحب إنساناً لمنْصبه، فهو لا يحبه لشخصه بل للمنصب الذي يتسلَّمه، فعندما قيل لبعض الولاة كم لك صديق؟ فقال: أمّا في حال الولاية فكثير، وأنشد:
الناسُ إخوانُ مَن دامت لهُ نِعمٌ والويلٌ للمرءِ إن زلّتْ به القدَمُ
ولما نُكِب علي بن عيسى الوزير لم يَنظَرْ ببابه أحداً من أصحابه الذين كانوا يألفونه في ولايته، فلما رُدَّت إليه الوزارة، وقف أصحابه ببابه ثانياً، فقال:
ما الناسُ إلا معَ الدُّنيا وصاحبِها فكلَّما انقلبتْ يوماً به انقلَبوايعظِّمونَ أخا الدنيا فإنْ وثبتْ يوماً عليه بما لا يشتهي وَثَبُوا
وقال آخر:
فما أكثرَ الأصحابَ حِينَ نَعدُّهمْ ولكنّهمْ في النائباتِ قليلُ
نحن نعلم أن المؤمن ليس بالخِبِّ، ولا الخبُّ يخدعُه، فعليه أن يكون حذراً في اختيار الأصدقاء والأصحاب، فلا يصاحب إلاَّ رجلاً يغفر له الزلّة، ويُقيله العَثْرَةَ، ويستر له العورة، ويُعينه في النكبة، ويحفظه في الغَيبة.فالشاعر أبو تمام يبحث عن صاحبٍ، ولكنْ بشروطٍ من أجمل شروط الصاحب الوفيِّ فهو يقول:
مَن لي بإنسانٍ إذا أغضبتُهُ وجهلتُ كان الحِلمُ ردَّ جوابهِوإذا صبوتُ إلى المُدامِ شربتُ مِن أخلاقهِ وَسَكِرْتُ مِن آدابِهِوتراهُ يُصْغِي للحديثِ بطَرْفِهِ وبقلبِهِ، ولعلَّهُ أدرى بِهِ!
أما الدكتور مصطفى السباعي - رحمه الله - فهو يرغّبنا أن نحرص على مصاحبة ثلاثةٍ، عندما يقول: "ثلاثةٌ احرص على صحبتهم: عالمٌ متخلقٌ بأخلاق النبوَّة، وحكيمٌ بيَّضت فَوْدَيهِ ليالي التجربة - والفَوْدُ مُعْظَمُ شَعْرِ الرأسِ مما يَلي الأُذُن، وناحِيَةُ الرأسِ، والمثنّى فَوْدانِ -، وشهمٌ له من مروءته ما يحمله على نصحك إذا أخطأتَ، وإقالتك إذا عسرتَ، وجبرك إذا انكسرتَ، والدفاع عنك إذا غبت، والإكرام لك إذا حضرت"؛ لذلك قالوا:
وليس أخي مَن ودَّني بلسانهِ ولكنْ أخي من ودَّني وهْوَ غائبُومِن مالهِ مالي إذا كنتُ مُعدماً ومالي له إن أعوزَتْهُ النوائبُ
ولأنَّ قليلاً من الناس من يتمثَّلُ بهذه الصفاتِ العظيمةِ، رأينا وَهْبَ بنَ مُنَبّه، بعد تجربة خمسين سنة، يقول: "صحبت الناس خمسينَ سنةً فما وجدتُ رجلاً غفر لي زلةً، ولا أقالني عثرةً، ولا ستر لي عورةً".
وأمّا ابن السِّماك فقد جعل ثلاثَ صفاتٍ لبقاء المودّة ودوامِها، فعندما قيل له: أيُّ الإخوان أحقُّ ببقاء المودَّةِ؟ قال: الوافِرُ دِينُه، الوافي عقلُهُ، الذي لا يملُّكَ على القُربِ، ولا ينساك على البُعد
وقد رأينا في زماننا كثيراً من الصفات المذمومة في بعض من يدَّعون الصحبة الصالحة، ومع أنه ليس من السهل الإحاطة بها، إلاّ أننا يمكن أنْ نكونَ متّفقين على العديد منها، ومن هذه الصفات:
- حدَّةُ المزاج.
- التفتيش عن أخطاء الآخرين ومتابعتها.
- الإسرافُ في نقْدِهم.
- إظهارُ البَرَمَ من أوضاعهم.
- كثرةُ الثرثرة والإفاضة في الكلام، مما يجر غالباً إلى إفشاء الأسرار وإلى النميمة.
- الأنانيةُ والتطرف في حبِّ الذات، من الأسباب الأساسية للإخفاق في تكوين صداقات جديدة.إضافةً إلى ما هو أعظم شناعةً من هذه الصفات، من الغدر والخيانة والغيبة والحسد والنفاق وسائر الأمراض القلبية.
فعلى الإنسان ألاَّ يصاحبَ من يقعُ أمامَهُ في أعراض الناسِ؛ لأنه سوف يقَعُ في عِرْضِهِ، ولا مَن يَنُمُّ له؛ فإنه سوف يَنُمُّ عليه، ولا من يغتاب عنده؛ فإنه سوف يغتابُهُ.
ولا تغترَّ بكثيرٍ ممن يضحك في وجهك، فلعلَّهُ سوف يُبْكيك يوماً ما:
إذا رأيتَ نُيوبَ اللَّيثِ بارزةً فلا تظنَّنَّ أنّ الليثَ يبتسمُ
فالمرءُ على دِين خليله، والمرء معَ مَن أحبَّ
فأخوك الصادق ينسى الهفواتِ، ويغفر لك الزلاّتِ، وهو ليس ممّن قيل فيهم:
وإنْ يَرَوْا هَفوةً طارُوا بها فرَحاً منِّي وما علِمُوا مِن صالحٍ دفَنُوا
- ختاماً:
الأُخُوَّةُ الصادقةُ المبنيَّة على المحبَّة في الله، وعلى تقوى الله، هي التي تبقى في الدُّنيا والآخرةِ
فكلُّ صديقٍ عدوٌّ يوم القيامة لصديقهِ؛ إلاّ المتقين.
قال تعالى: {الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}
.........